26 - 06 - 2024

تجربة ذاتية | قطار 186 الذي تأخر ساعة ليعطيني درسًا لعمر كامل

تجربة ذاتية | قطار 186 الذي تأخر ساعة ليعطيني درسًا لعمر كامل

مساء الثلاثاء وانا في رحلة للمنيا تستغرق 4 ساعات على أقصى تقدير، شعرت بالكثير من الكلل و الملل، تذمرت وتشاجرت مرات، وكدت أن أفقد أعصابي وشعرت بضغط وإرهاق.

في العادة لا أسافر بالقطار منذ فترة كبيرة ولكن بدون تخطيط استيقظت من نومي صباحا متجهة إلى محطة قطار الجيزة لتغيير روتين السفر و رؤية الناس عن قرب.

بداية حدثني رئيس المحطة عن طبيعة عمله الشاق، وسألته عن قدرته الهائلة في الرد على أكثر من مائة سؤال في الدقيقة الواحدة، خصوصًا وأن نصف المسافرين إلى الصعيد يحتاجون إلى الكثير من الاستفسارات عن المواعيد وأسباب التأخير، ليرد عليّ باسمًا هذا ليس عملي إطلاقًا انا أقوم به من أجل مساعدة الآخرين، ارتكبت العديد من الذنوب آمل أن يغفرها الله بمحاولة مساعدة الناس.

انتظرت القطار أكثر من ثلاث ساعات في تصرف غريب جدا علىّ، وصل قطار 186 بعد تأخير ساعة، ركبت القطار ولدى محاولة الجلوس على مقعدي وجدت بجواري ثلاثة شباب يتحدثون بلهجة صعيدية خشنة، ويظهر أن لديهم مشكلة مع الإناث عمومًا وحركتهم، نظر أحدهم إليّ نظرة حادة وترك الكرسي، لاحظ أحد الشباب تصرفهم وعدم قدرتي على الإستمرار بمقعدي. نادتني سيدة  في الأربعينات: "يا آنسة تعالي اقعدي مكان إبني وهو يبدل معاكي" تنفست الصعداء أخيرًا وذهبت فورًا وانا أعتقد أنه الخلاص وأنهم عديمي الذوق، لم أفكر أبدا أنهم فعلوا بي خيرا كثيرًا.

نظرت إلى رجلين يجلسان في مواجهتي بالمكان الجديد، شعرت أنهم بحالة توهان تشبهني، لم أفكر وسألتهم بتلقائية "انتوا مصريين ؟" ليرد أحدهم لا، نحن عراقيون وهو متأثر جدا، عراقيون في رحلة إلى الصعيد؟

لم يكن الامر غريبا أبدا، الغريب هو الشغف والهدوء الذي يبدو عليهما، المسارعة إلى الخير  رغم قسوة الزمن، كما اتضح من حديثهما، ادراكهما الكُلي أننا جنائز مؤجلة ولن نأخذ من الدنيا شيئا غير العمل الصالح، الصفاء والرضا والحب بعد رحلة كلفتهم أسابيع وأيام من محافظة نينوى في شمال العراق إلى منطقة باب اللوق بالقاهرة ومن باب اللوق إلى محافظة بني سويف.

عم قاسم وعم ساطع أصدقاء بدرجة أخوة، في لحظة تركيز لمدة دقائق وعم ساطع يشاهد التلفاز في بيته البسيط في العراق، وجد إعلانًا يدعو لمساعدة للفقراء وحفر آبار للمياه وعمل أسقف للمنازل يحتاجها بعض أهالي مركز سمسطا بمحافظة بني سويف.

أسرع عم ساطع لصديقه يقص عليه الأمر ليجيبه عم قاسم لنذهب إلى القاهرة ونرى الأمر ونقوم بعمل الصدقة لعلنا نأخذ الثواب والأجر.

حجزا على أقرب طائرة للقاهرة ليصلا في الثاني عشر من أغسطس ويقيما في فندق بمنطقة باب اللوق وسط القاهرة ثم يبدآن البحث عن المكان الذي حضرا من أجله في محافظة أخرى بعد ثلاثة أيام راحة من الرحلة.

نظرت إلى عم ساطع وتساءلت: أى عمل هذا؟ كل هذا الجهد والوقت والتعب؟! ليرد علئ وهو يجهش بالبكاء بقول ابن القيم "ارخِ يدك بالصدقة تُرخى حبال المصائب من على عنقك وأعلم أن حاجتك إلى أجر الصدقة أشد من حاجة ممن تتصدق عليه". أخبرني ذلك، وكله خوف وخجل أن لم تصل الصدقة لأهلها ويأخذ هو الجزاء والثواب.

سألته عن عمله .. قلت في نفسي ربما يكون أحد أهم رجال الأعمال بالعراق مثلا ولديه رفاهية السفر والتجربة وعمل الصدقة، فأجابني قائلا: لدئ محل زجاج صغير جدا ومتقاعد عن العمل ورد عم قاسم انا أيضا كنت مهندس كيمياء والآن خرجت أيضًا على التقاعد.

لم يعرفا شيئا عن البلد ولا يملكان غير صورة للإعلان بها عنوان غير تفصيليّ يسيران عليه، من خلال الحديث الذي تسرسب بيننا، ارشدتهما انا والسيدة على شيخ للقرية وعلى بعض القرى المجاورة ونزلا من القطار قبلي، وانا كُلي حيرة وإعجاب.

قارنت حالي بحالهما ، ثلاث ساعات في سفر لبيتنا وبُعد عن العمل واسترخاء ومع ذلك شعور بكل هذا الضجر والملل ! وأناس يسافرون أياما وليالي طوال بالطائرة والقطار وغيرها من وسائل المواصلات ، وكلهم هدوء ورضا ، في محاولة لأخذ أجر الصدقة وهما غير متأكدين من ذلك ولا يريدان شيئا من الدنيا غير الرحيل عنها خفافا.

يارب ما أجمل عبادك حين يحاولون التخفف من الدُنيا!
-----------------------------
رانيا عبدالوهاب






اعلان